المجاملة ..
هذه المدعوة " المجاملة" .. المبتسمة في كل وقت وزمان ..
قلما يوجد انسان لا يجامل .. ولكنها تتفاوت نسبتها من شخص لأخر .. والبعض يضع لها حدود
ويستخدنها في مجالات ضيقة والبعض لا يميز فهي تلازمه في كل وقت-
جميعنا يدرك مدى أهمية المجاملة، بل هي ركن من أركان فن التعامل مع الآخرين على
المستوى الفردي والجماعي حتى الدولي، ولكن هناك أعراض جانبية تحدث بعد كل مجاملة،
إيجابية أحياناً وأخرى سلبية تؤثر على الشخص المجامل والمجامل له.
وبالنظر للشخص الذي ينكر ضرورة المجاملة ويتوكأ في معاملته على الصراحة غالباً ما نجده
ثقيل الظل لدى البعض لا يطاق وفي النهاية هو الخاسر، فطرت القلوب على حب المدح والثناء،
والمجاملة, فلا نكابر، ولست هنا في صدد مدى استحقاقها ولمن تكون، والعاقل يميز بين من
يستحق المجاملة ومن لا يستحقها والظرف المناسب لها وإلى أي بعد ستصل هذه المجاملة وما
خلفياتها، فلا نكون مجاملين على حساب مصالحنا ولا نكون صريحين لحد الوقاحة، فهناك فرق
وطريق وسط بينهما على العاقل أن يتقن السير عليه.
فلو تحدثنا عن بعض الأمور التي يجب فيها المجاملة لما أحصيناها وخاصة مع من نصافحهم
بكثرة كالأصدقاء والأقارب لأدركنا كم يجب ألا نستصغر في تعاملنا مع الآخرين أي فعل أو كلمة
تقال، ولنجرب بأنفسنا مدى وقع هذه الكلمات علينا وكيف أنها قد تكون الشعور بالارتياح أو
الاستياء ومع مرور الوقت تترسب هذه الكلمات والأفعال لدى المتلقي فيتكون لديه الشعور
بالحب والرغبة في الاستمرار أو الكراهية والنفور، فإما أن تبنى روابط العلاقة على جميع
المستويات وتحيطها بشيء من التلاطف والرقي أو تحطمها.
ورغم احتياجنا للمجاملة كفن ووسيلة مرغوبة في التعامل لمن يحسن إدارتها إلا أننا نجد أحياناً
من لا يجيد التعامل بها وإن جامل أفرط فأضر لدرجة الإخلال بأسس لا تقوم إلا بالصراحة فتؤثر
على المجامل أو المجامل له.
كعلاقة الناقد بالمنقود فلا يحق للأول أن يجامل الثاني فيما طلب النقد فيه، فعلى الأول أن يقول
ما يرى أنه الصواب وبكل صراحة. ويقاس على هذا المثال أمثلة كثيرة لا مجال للمجاملة فيها
لما تخلفه من آثار جانبية قد تضر بالمجامل له.
وليس على الشخص أن يبالغ في المجاملة ويكثر من التصنع والتمثيل فهذه لها صدى سيئ لدى
المتلقي وقد تصل أحياناً لحد النفاق.
كل ما عليه هو أن يجيد اختيار الكلمات المناسبة لكل مقام مجاملة وأن يخط على وجهه بعض
الابتسامات التي تبعث الارتياح وتخفف من وقع المعارضة والنقد دون الصراحة الجارحة.
وفي النقاش مهما احتد لا بد من شيء من الإيضاح والإقناع عن وجهة نظر مطروحة بلا تعصب
لرأي شخصي لكي يتسنى للطرف الآخر في الحوار استيعاب الفكرة وتقبل الرأي المغاير دون
الشعور بالحرج أو بالنقص فإن اقتنع كان بها وإن لم يقتنع فأعلم أن ليس هناك من هو قادر
على إقناع الجميع.
والمجاملة التى تؤدى الى الضرر ليست مطلوبة ، فالمجاملة أساسا تكون لتأليف القلوب
وتخفيف آثار الضر بشرط عدم مخالفة العقيدة والشريعة وعدم الوقوع فى المظالم.
وفى هذه الحالة يمكن تسميتها ( مداراة ) وهى مندوبة وليست ( مداهنة ) التى هى مذمومة.
بشكل مختصر المداراة بذل الدنيا من أجل الدين ، بينما المداهنة بذل الدين من أجل الدنيا ،
وفرق كبير بينهما
المداراة هى الملاينة والملاطفة وهي خفض الجناح للناس ولين الكلام لهم وترك الإغلاظ لهم
في القول ، والمداراة الدفع برفق ،
والمداراة يحتاجها المؤمن ، لكنه في عصر من العصور تشتد الحاجة إليها ، وفي عصر آخر
تقل الحاجة إليها ، نحن في عصر تشتد الحاجة فيه إلى المداراة .
يقول الماوردي رحمه الله تعالى :
إذا كان للإنسان عدو ، وقد استحكمت شحناؤه واستوعرت سراؤه ، واستخشنت ضراؤه ، فهو
يتربص بدوائر السوء ، وانتهاز فرصة ، ويتجرع بمهانة العجز مرارة غصة ، فإذا ظفر بنائبة
ساعدها ، وإذا شاهد نعمة عاندها ، فالبعد عن هذا حذراً أسلم ، لكف عنه متاركة أغنم ، لأنه لا
يسلم من عواقب شره ، ولا يفلت من غوائل مكره إلا بالبعد عنه أو مداراته ،
وقد قال لقمان
لابنه : يا بني كذب من قال : إن الشر بالشر يطفأ ، فإذا كان صادقاً فليوقد نارين ، ولينظر هل
تطفئ إحداهما الأخرى ، وإنما يطفئ الخير الشر كما يطفئ الماء النار .
إن قال شيئاً يخالف العقيدة ، وابتسمت ، وأيدته بذلك فهذه مداهنة ، أما في أثناء الحساب بينك
وبين إنسان معاند إذا سامحته ببعض حقك المادي فهذه مداراة ، إن بذلت من المال أو من
حظوظ الدنيا أو من راحتك أو من مصالحك من أجل أن تأخذ بيد هذا الذي تحاوره فهذه مداراة ،
أما إذا بذلت من دينك ، من فرائض الدين ، من السنن ، من سلامة العقيدة ، وأرضيت الطرف
الآخر بأفكار لا تؤمن بها ، وتعارض الدين تقرباً إليه فهذه مداهنة ، وليست مداراة .
إذا كانت القضية لا علاقة لها بالعقيدة ، ولا بالدين ، بل هي متعلقة بالدنيا ، إذا عارضته ،
وتشبث برأيه ، وتشبثت برأيك ، والموضوع كله لا يحتمل هذه المعارضة ، فالمداراة الآن
مطلوبة ، إلا إذا نطق بالكفر ، أو بالباطل ، أو بشيء يرفضه القرآن والسنة ، فينبغي ألا تسكت ،
ينبغي أن تكون مدافعاً عن هذا الدين ..
قال تعالى:
( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ، النحل/ 125
هناك موعظة حسنة ، أما إذا جادلته بالتي هي أحسن فللفرق بينهما ، استخدم كلمة حسنة في
الوعظ والإرشاد ، أما إذا كان الجدال فالجدال من شأنه أن المجادل يربط كرامته بأفكاره.
ومن الأحاديث الشريفة المتعلقة بالمدارة :
أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( مداراة الناس صدقة )) .
[ أخرجه ابن حبان في صحيحه والطبراني في الكبير والبيهقي عن جابر ]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
( والسعادة في معاملة الخلق، أن تعاملهم لله، فترجو الله فيهم ولا ترجوهم في الله، وتخافه فيهم ولا تخافهم في الله، وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لمكافأتهم، وتكف عن ظلمهم خوفا من الله لا منهم. كما جاء في الأثر: "ارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله، وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله) أي: لا تفعل شيئا من أنواع العبادات والقرب لأجلهم، لا رجاء مدحهم ولا خوفا من ذمهم، بل ارج الله ولا تخفهم في الله فيما تأتي وما تذر بل افعل ما أمرت به وإن كرهوه.
وختاماً أقول إن المجاملة كالابتسامة تنعش الروح وتشعرها بالارتياح
فلماذا لا نجامل؟!.
والله أعلم
_______________